آخر التعليقات

الأحد، 10 ديسمبر 2017

العلم و السياسة


"بين الباندا و البشر: المسألة المركزية للأصول البيولوجية" هو كتاب مدرسي تم إصداره في العام ١٩٨٩ ونشرته مؤسسة أمريكية مقرها ولاية تكساس تحمل اسم "مؤسسة من أجل الفكر والأخلاقيات". تذكر صفحة "ويكيبيديا" أن الكتاب يؤيد مفهوم "العلم الزائف – pseudoscience" الخاص بنظرية التصميم الذكي التي تقول أن الحياة على الأرض تُظهر أدلة على أنها مُصممة من قبل مُصمم ذكي و ليست مجرد مجموعة من الأحداث العشوائية كما جاء بالنظرية التطورية. الكتاب لم يصف داخله على وجه التحديد ماهية ذلك المُصمم. أمَّا الصفحة التي تتعرض للكتاب على موقع ويكيبيدا فإنها تذكر أن الكتاب يقدم حجج جدلية مختلفة ضد النظرية "العلمية" للتطور.
و خلينا نأكد المعنى دا هنا معانا أن المحافل الدولية العلمية لا تؤمن بنظرية "التصميم الذكي" بكونها نظرية "علمية" و تؤمن بأن نظرية التطور هى النظرية العلمية المثبتة على مسألة إختلاف الكائنات الحية.
في العام ٢٠٠٧، نشرت طبعة ثالثة من الكتاب تحت عنوان "تصميم الحياة: اكتشاف علامات الذكاء في النظم البيولوجية". يثير الكتاب عددا من الاعتراضات على نظرية التطور من خلال عدة أدلة علمية مثل النقص المزعوم في الأحافير الانتقالية، والثغرات في السجل الأحفوري، والظهور المفاجئ للأسماك كاملةً مع الزعانف والقشور، و كذلك الطيور مع الريش و المناقير والأجنحة بالإضافة إلى عدة أدلة أخرى.
قصة قصيرة مهمة:
منذ العام ٢٠٠٢، بدأ السيد "ويليام باكينجهام" و "ألان بونسيل" عضويّ مجلس إدارة المنطقة التعليمية الخاصة بمنطقة "دوفر" بمقاطعة "يورك" بولاية "بنسيلفانيا" الأمريكية في تقديم عدة بيانات لدعم تدريس نظرية الخلق المباشر في المنهج التعليمي جنبا إلى جنب مع نظرية التطور. و في إحدى إجتماعات مجلس إدارة المنطقة التعليمية بالعام ٢٠٠٤، ذكر باكينجهام نظرية الخلق و أظهر بعض الإعتراضات على تدريس كتاب "كينيث ميلللر" و "جوزيف ليفين" الخاص بمادة الأحياء بالمدارس واصفاً له بأنه مرتبطاً إرتباط كلي بنظرية الداروينية. ذلك الحدث جذب إنتباه وسائل الإعلام بمقاطعة يورك التي تناقلته بشدة. حتى أن المحامي الخاص بمؤسسة "معهد ديسكوفري" تواصل مع السيد باكينجهام بخصوص المسألة و شملت مهامه التواصل مع المُشرِّعين وأعضاء مجلس إدارة المدرسة والمعلمين وأولياء الأمور والطلاب من أجل معالجة موضوع الهوية بطريقة مسؤولة علميا وتعليميا في المدارس العامة.
ما فعله باكينجهان بعد ذلك هو أنه تواصل مع مؤسسة "مركز توماس مور القانوني" لتمثيل مجلس إدارة دوفر التعليمية و لترشيح إضافة كتاب "بين الباندا و البشر" للمنهج الدراسي المقرر على المدارس. و في ١٨ أكتوبر من العام ٢٠٠٤، قرر مجلس إدارة دوفر التعليمية عبر التصويت (٦ موافقة من ٩) إضافة محاضرات في مسألة الخلق عبر الكتاب المذكور و إضافة الجملة الآتية لقراءتها من قِبل المدرسين على طلبة الصف التاسع بمنهج مادة الأحياء :
" على الطلاب أن يتعرفوا على الثغرات / المشاكل بنظرية داروين والنظريات الأخرى للتطور بما في ذلك، ولكن ليس على سبيل الحصر، التصميم الذكي. ملاحظة: لا يتم تدريس أصل الحياة".
بمعنى أنهم قرروا زيادة معرفة الطلاب بالنظريات المخالفة لنظرية التطور التي هي النظرية الوحيدة التي يتم تدريسها بالمدارس الأمريكية العامة و زيادة معرفة الطلبة بثغراتها بدون التطرق لمسألة أصل الحياة.
و في ١٩ نوفمبر ٢٠٠٤، أصدرت منطقة دوفر التعليمية بياناً صحفياً جاء فيه أنه اعتباراً من يناير ٢٠٠٥، سيتطلب من المعلمين قراءة البيان التالي للطلاب في صف علم الأحياء من الصف التاسع في مدرسة دوفر الثانوية:
"المعايير الأكاديمية الخاصة بولاية بنسلفانيا تتطلب من الطلاب معرفة المزيد عن نظرية داروين، وفي نهاية المطاف إلى إجراء اختبار موحد للمادر يكون التطور جزء لا يتجزأ منه.
و لأن نظرية داروين هي في النهاية نظرية، فإنه لا يزال يجري اختبارها كلما تم اكتشاف أدلة جديدة. فالنظرية ليست بحقيقة و لا تخلو من الثغرات التي لا يوجد دليل عليها. والنظرية بصورة عامة هي تفسير تم اختباره جيدا و الذي يقوم بتوحيد مجموعة واسعة من الملاحظات.
التصميم الذكي هو شرح خاص بنشأة الحياة و الذي يختلف كثيراً عن وجهة نظر داروين. الكتاب المرجعي "بين الباندا و البشر" سيكون متاحاً للطلاب لمعرفة ما إذا كانوا يرغبون في استكشاف هذا الرأي في محاولة للحصول على فهم ما ينطوي على التصميم الذكي في الواقع.
و كما هو الحال مع أي نظرية، سيتم تشجيع الطلاب على الحفاظ على عقلية متفتحة. و تترك المدرسة مناقشة أصول الحياة للطلاب و أسرهم."
و الله عداهم العيب ... لكن ينفع يعدوها كدا برضة ؟ أهو دا العيب ...
الأعضاء الثلاث الذين صوتوا بعدم الموافقة على تدريس نظرية الخلق المباشر قاموا بالتظاهر و قدموا إستقالاتهم. ديمقراطية ديمقراطية الصراحة. أما المدرسون فقد إمتنعوا عن قراءة البيان السابق لطلبة الصف التاسع بالمدرسة.
في ١٤ ديسمبر من العام ٢٠٠٤، رفع "الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية - ACLU" دعوى قضائية بالنيابة عن ١١ من أولياء أمور الطلبة لمنع تدريس الكتاب المذكور و ذكر نظرية الخلق المباشر بمنهج مادة الأحياء. وقتها كان تعليق السيد "جون ويست" من معهد ديسكافري أنه "من الاحتمالات المقلقة أن نتائج هذه الدعوى قد تكون إعطاء المحكمة سلطة تحديد ما هو التحقيق العلمي المشروع وما هو غير ذلك بالنيابة عن العلماء ذاتهم أو المتخصصون و هو ما يُعد إعتداء مباشر على حرية الرأي"
المهم ... تم بدء المحاكمة بتاريخ ٢٦ سبتمبر ٢٠٠٥. و في ال٢٠ من ديسمبر نطق القاضي الحكم بقبول الدعوى و عدم أحقية المدرسة بإرفاق نظرية "الخلق المباشر" بالتعليم المدرسي حيث أنها إعتبرتها "علم زائف" طبقاً لشهادة المتخصصين الذين أستعانت بهم المحكمة و كذلك لأنها إعتبرت أن تلك النظرية أساسها وجود قوة خارقة فوقية و هو لا يعني سوى أنها إشارة إلى الله و هو ما يصطدم مع البند الأول من الدستور الأمريكي الذي يمنع الحكومة الأمريكية من التدخل في عقائد الناس و منعها من دعم تدريس دين محدد أو عقيدة محددة. كذلك كان من ضمن أسباب قبولها الدعوى هو الأثر الذي قد يسببه ذلك النوع من المعرفة "الغير علمية" على المجتمع العلمي و أفراده.
فاكرين تعليق السيد "جون ويست" من معهد ديسكافري على مسألة رفض الدعوى ؟ "الرابطة الأمريكية لتقدم العلوم" و "الرابطة الوطنية لمعلمي الأحياء" ذكروا أن تعليق ويست لم يكن فقط يدعو إلى السخرية و لكنه أيضاً نوع من أنواع النفاق. ذلك لأن معهد ديسكفري الذي يمثله السيد ويست لا يؤمن بفلسفة الطبيعة، و هي نظرية تتعلق بالمنهج العلمي القائل بأن جميع الكائنات والأحداث في الكون هي من فعل الطبيعة و أنه لا توجد قوى أو سلطة تحكمها.
يعني المجتمع العلمي إللي أستدل بيه قاضي المحكمة لقبول دعوى رفض إدراج نظرية الخلق المباشر في منهج الأحياء يؤمن أصلاً بأن العلم هو المُدبر لشؤون الكون و أن لا يمكن بأي حال من الأحوال الإستدلال بقوى خارقة في مسائل الطبيعة.
طيب أرجع بيكم لورا شوية ؟ فاكرين البوست إللي فات عن الراجل الملحد إللي كان عايز يشتغل في وظيفة حكومية بولاية ميريلاند الأمريكية و رفع دعوى قضائية على الولاية لأنها كانت بتلزمة بكتابة إقرار بأنه يؤمن بالله و المحكمة حكمت له من باب أن الدستور يمنع أي مؤسسة حكومية من التدخل في أديان الناس ؟
فاكرين التعليق إللي أرفقه القاضي "هوجو بلاك" في قضية سابقة و إللي تم الإستدلال بيه في قضية الراجل الملحد دا ؟ التعليق كان أن (من بين الأديان المتواجدة بالبلاد؛ البوذية و الطاوية و ........ و الإنسانية و العلمانية). يعني المحكمة حكمت لصالح الرجل لأنها إعتبرت أن عدم الإيمان بالله أو الإلحاد هو في نفسه إعتقاد أو دين و بناءً عليه ماينفعش أي مؤسسة حكومية تتدخل في عقائد الناس طبقاً للدستور.
يعني المجتمع العلمي إللي بيؤمن بالطبيعة و لا يؤمن بقوى فوقية دا من حقه يدرس المواد العلمية بالأسلوب دا و أن إدخال أي نظريات تهدم نظرياته هو تدخل في معتقدات الناس و في نفس الوقت المحكمة العليا إللي هي أكبر محكمة في البلاد وصفت الإنسانية و العلمانية بأنها دين. يعني المفاهيم إللي بيزرعها المجتمع العلمي من خلال أدلة قابلة للنقد و يقابلها أداة تهدمها هو في ذاته من حيث وصف المحكمة العليا تدخل في عقائد المواطنين و زرع معتقدات مختلفة.
أنا مش عايز أناقش المسألة ذاتها من باب الأدلة و البراهين على الجانبين، و لكن المفهوم إللي عايز أأكده هو أن إللي بيعتبر العلم مستقل و أن القرارات إللي بيتم إدراجها بالمناهج المدرسية و الجامعية على أساس أنها مُسلمات ليست كذلك لأن السياسة في النهاية هي التي تمنع إدراج الأدلة المعارضة لتلك المُسلمات في المناهج العلمية و الإعتراف بها بالمحافل العلمية و المعملية. حتى أن أعضاء مجلس الإدارة التعليمية المذكورة عندما لجئوا للديمقراطية لإقرار تدريس نظرية "الخلق المباشر" كفروا بها عندما أصبحت نتيجة تلك الديمقراطية مخالفة لما كانوا يتمنون و تظاهروا ضدها ثم قدموا إستقالاتهم و لجؤوا إلى القضاء.
العلم مش مستقل و الحالة دي مجرد نموذج من آلاف النماذج.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More