يذكر د/عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، في مقاله الشهير "الأمركة والكوكلة والعلمنة" الذي كتبه منذ 8 سنوات أن: "الأمركة في تصوري هي محاولة صبغ أي مجتمع أو فرد بالصبغة الأمريكية وإشاعة نمط الحياة الأمريكية".
أمَّا "الكوكلة" أو Cocacolization فهي رمز نمط الحياة الأميركية وانتشارها وتدويلها.
فقد قال أحدهم إن الأمر ليس "كوكلة" وحسب وإنما هي "كوكاكولونيالية"، بدلا من "كولونيالية".
كما كتب أحد علماء الاجتماع كتاباً بعنوان "The Macdonaldization of the World" أي "مكدلة العالم" (نسبة إلى ماكدونالدز) الذي يصبح هنا رمز الأمركة بدلاً من الكوكاكولا.
والمجال الدلالي لكلمة "أمركة" (أو "كوكلة" أو "مكدلة") يتداخل مع كلمة "تغريب" و"علمنة" باعتبار أن العلمنة الشاملة ليست مجرد فصل الدين عن الدولة وبعض مجالات الحياة العامة وإنما هي عملية فصل كل القيم والثوابت والمطلقات عن العالم والطبيعة وحياة الإنسان العامة ثم الخاصة، إذ يتحول العالم بأسره إلى مادة استعمالية لا قداسة لها ولا خصوصية ولا مرجعية لها سوى المرجعية الكامنة في المادة، أي ما يسمى بقوانين الحركة (آليات السوق- المنفعة المادية- شهوة السلطة- الجنس- علاقات الإنتاج).
ومن ثم يمكن توظيف هذه المادة في أي غرض وبأي طريقة دون أي تحفظات أو حرج.
في هذا الإطار أصبح العالم منفصلا عن القيمة، أو كما يقولون بالإنجليزية Value - Free، بمعنى أنه لا يوجد معايير إنسانية أو أخلاقية أو دينية. وحتى لو وجدت مثل هذه المعايير فهي ستتغير لا محالة، كما أنها غير مادية، وبالتالي لا يمكن أن تؤخذ في الحسبان.
كل هذا يعني استحالة الحكم على سلوك الأفراد أو الجماعات أو على الظواهر الاجتماعية. ومع غياب المعايير غابت المرجعية الإنسانية، وظهرت العنصرية والفلسفة الداروينية التي جعلت من القوة المعيار الوحيد للحكم والآلية الوحيدة لحسم الخلافات.
وفي هذا الإطار نسيت قيم إنسانية أساسية مثل العدل والمساواة والتوازن والطمأنينة والحفاظ على البيئة.
هذا هو الإطار العام للمنظومة الحضارية الغربية التي يتحرك العالم بأسره -عن وعي أو عن غير وعي- من خلالها، والولايات المتحدة الأميركية هي التعبير المتبلور عن هذه الرؤية.
وليس من قبيل المصادفة أن أكثر الدول علمنة في العالم هي أيضا قائدة الإمبريالية الغربية، وهي دولة تصاعدت فيها معدلات الرغبة في الغزو وفي احتواء العالم (الإنسان والطبيعة) وتوظيفه لصالح نخبتها السياسية والعسكرية، ونجحت في تسويق هذه السياسة.
وانتشار ظاهرة الأمركة في العالم يرجع إلى تزايد الهيمنة العسكرية والحضارية الأميركية. ولعل من أكبر آليات العلمنة والأمركة في العالم الآن السينما الأميركية.
ونحن نذهب إلى أن المنظومات المادية تحوي دائما تناقضا أساسيا، فهي تبدأ بتأكيد الخاص والمباشر والملموس ثم تتجه تدريجيا نحو القانون المادي العام المجرد والمبدأ الواحد الكامن وراء كل الظواهر.
ولعل الدارس لليابان يعرف ماذا يحدث لها، فبعد أجيال من الحديث عن الشنتو والبوذية واحتفال الشاي والكيمونو والكابوكي والنوه والهايكو، وبعد سنين طويلة من التمسك بأهداب الخصوصية، اكتسحت الحضارة الأميركية الأجيال الجديدة، فهم الآن يلبسون التيشيرت ويشربون الكوكاكولا ويأكلون الهامبورغر ويرقصون الديسكو ويجرون عمليات جراحية على عيونهم حتى لا تكون ضيقة مثل عيون الآسيويين.
وقل الشيء نفسه عن الدولة اليهودية التي يستند سبب وجودها إلى تحقيق الهوية اليهودية الافتراضية. هذه الدولة اكتسحتها تماما النزعة نحو الأمركة وإن كانوا يدّعون أن هناك هوية يهودية.
"القاسم المشترك الأكبر بين كل الظواهر التي أدت إلى تطور أميركا هو إنكار التاريخ الذي هو في جوهره إنكار التركيبية الإنسانية، مما يؤدي إلى الوقوع في قبضة الصيرورة المادية"
وبعد أن كان السوق والمصنع هما العنصران الأساسيان ينضم إليهما قطاع اللذة والاستهلاك الذي نرمز له بالملهى الليلي أو شركة السياحة.
ويجب أن ندرك أن هذه الأمركة ليست مؤامرة أو حتى مخططا، وإنما هو نسق حضاري لا يحطم الحضارات الأخرى وحسب بل ويحطم الخصوصية الأميركية والثقافة الأميركية ذاتها.
فالهامبورغر ليس طعاما أميركيا والديسكو ليست موسيقى أميركية وإنما هي أشكال حضارية ظهرت مع انتقال الحضارة العلمانية الأميركية والثقافة الأميركية من مرحلة الخصوصية والصلابة والتماسك إلى مرحلة العمومية والسيولة، وهو انتقال يؤدي إلى تحطيم الخصوصيات الأميركية. وهي حضارات محلية في غاية الثراء، كلها آخذة في التآكل السريع بتأثير عمليات الأمركة والعلمنة.
لينك خبر مصنع غزة: http://www.bbc.com/…/160205_vert_cap_the_story_of_cokes_ris…
0 التعليقات:
إرسال تعليق